سلوكيات ازرعيها في طفلك لبناء شخصية متوازنة وناجحة

تربية الأطفال عملية معقدة ومتشعبة تتطلب الوعي الكامل من الوالدين، وخصوصًا الأم، لأنها غالبًا ما تكون الأقرب إلى الطفل في سنواته الأولى. إن السلوكيات التي تزرعها الأم في طفلها خلال تلك المرحلة التكوينية لا تظل حبيسة الطفولة، بل تمتد آثارها إلى مراحل المراهقة والشباب وحتى الرشد. فالقيم التي يُربى عليها الطفل تصبح جزءًا من بنيته النفسية والسلوكية، وتشكّل الأساس الذي يُبنى عليه مستقبله العاطفي، الاجتماعي، المهني، والأخلاقي.

تتطلب هذه المهمة فهماً عميقاً لطبيعة نمو الطفل، ومعرفة دقيقة بالخصائص العمرية والنفسية التي يمر بها، بالإضافة إلى أساليب تربوية حديثة ومتوازنة تضمن له النشأة السليمة المتكاملة. فيما يلي، نعرض مجموعة من السلوكيات الأساسية التي يجب غرسها في الطفل منذ الصغر، والتي تساهم بشكل كبير في بناء شخصيته بطريقة صحية وإيجابية.

1. الصدق: حجر الأساس في القيم الأخلاقية

من أولى السلوكيات التي يجب أن تُغرس في الطفل هي الصدق. فالكذب سلوك مكتسب وليس فطريًا، وغالبًا ما يبدأ عندما يلاحظ الطفل التناقض بين أقوال الكبار وأفعالهم. على الأم أن تكون نموذجًا للصدق، لأن الأطفال يتعلمون بالملاحظة قبل التعلم بالتلقين. ومن المهم تعزيز صدق الطفل من خلال الثناء على مواقفه الصادقة حتى لو كانت تتضمن اعترافاً بخطأ. فذلك يعلمه أن قول الحقيقة لا يجرّ العقاب بقدر ما يعكس شخصية شجاعة وجديرة بالثقة.

2. احترام الذات واحترام الآخرين

تعليم الطفل احترام ذاته يعني تعليمه حب النفس بشكل صحي، والشعور بالقيمة والأهمية. ويترتب على هذا احترام الآخرين، وهو أحد أهم معايير الذكاء العاطفي والاجتماعي. يجب أن يتعلم الطفل احترام الكبار، تقدير جهود الآخرين، التعامل بلطف مع الخدم أو الزملاء أو الأشخاص الأقل منه اجتماعيًا أو اقتصاديًا. ويمكن غرس هذه القيمة من خلال مواقف الحياة اليومية، مثل تحيته للجار، أو شكره لمن يقدم له خدمة، أو تعاطفه مع زميل يعاني من مشكلة.

3. الاستقلالية وتحمل المسؤولية

الطفل الذي يُربى على الاعتماد على نفسه هو طفل مستعد لمواجهة تحديات الحياة. يجب أن يتعلم منذ صغره كيف يرتب غرفته، يحافظ على ممتلكاته، يشارك في ترتيب مائدة الطعام، ويلتزم بواجباته الدراسية. تدريبه على المهام الصغيرة يغرس فيه الشعور بالمسؤولية والثقة بالنفس، ويمنحه الإحساس بأنه قادر على إحداث فرق في محيطه.

4. ضبط النفس وإدارة المشاعر

القدرة على التحكم في الانفعالات هي مهارة حياتية بالغة الأهمية، ويجب تعليمها للأطفال من عمر مبكر. عندما يواجه الطفل موقفًا يثير غضبه، يجب توجيهه إلى استخدام وسائل تعبير مقبولة، مثل الحوار، وليس الصراخ أو الضرب. من المفيد استخدام أساليب مثل “زاوية الهدوء”، وتعليمه تمارين تنفس بسيطة تساعده على تهدئة نفسه. كما يُستحسن تشجيعه على تسمية مشاعره (مثل: أنا غاضب، أنا حزين) مما يساعده في إدارة حالته النفسية بطريقة ناضجة.

5. العطاء ومساعدة الآخرين

الطفل الذي يتعلم العطاء منذ الصغر، حتى وإن كان بسيطًا، ينمو ليصبح شخصًا متعاطفًا، متوازنًا نفسيًا، وأكثر سعادة. يمكن للأم إشراك طفلها في أنشطة خيرية مناسبة لعمره، مثل التبرع بلعبه القديمة، أو زيارة دار أيتام، أو حتى المساعدة في توزيع الطعام للمحتاجين. هذه التجارب العملية تزرع فيه قيمة التضامن الاجتماعي والانتماء للآخرين.

6. النظام والانضباط

غرس النظام في الطفل منذ سن مبكرة يجعل حياته أكثر تنظيماً ويساعده في اكتساب المهارات التنفيذية المهمة مثل التخطيط، إدارة الوقت، وإنجاز المهام. يمكن تحقيق ذلك من خلال وضع روتين يومي للطفل يشمل النوم، الطعام، الدراسة، واللعب. الالتزام بهذا الروتين يعلّمه أهمية الوقت والانضباط الذاتي، ويخلق لديه شعورًا بالأمان والثبات.

7. حب التعلم والفضول المعرفي

يولد الطفل محبًا للاستكشاف، لكن البيئة المحيطة قد تقتل هذا الفضول إن لم تُحسن التعامل معه. يجب تشجيع الطفل على طرح الأسئلة، والبحث عن الأجوبة، وتقدير الكتب والتجارب التعليمية. يمكن للأم أن توفر له بيئة غنية بالكتب المصورة، والأنشطة العلمية البسيطة، وتشاركه الحوار والنقاش حول مختلف الموضوعات. التعليم لا يجب أن يكون فقط مقتصرًا على المدرسة، بل يجب أن يصبح نمط حياة.

8. الامتنان وتقدير النعم

من أهم السلوكيات التي تسهم في بناء نفسية سوية هو تعليم الطفل الامتنان. فالطفل الممتن يكون أكثر رضى وأقل شكوى. يجب أن يتعلم شكر الله على النعم الصغيرة والكبيرة، وشكر الناس على أفعالهم الطيبة. هذا يخلق فيه شعورًا بالرضا والتوازن، ويجعله أكثر ارتباطًا بالقيم الروحية والأخلاقية.

9. الوعي بالنظافة الشخصية والبيئية

النظافة ليست فقط سلوكًا صحياً، بل هي أيضًا مظهر من مظاهر احترام الذات والآخرين. يجب تدريب الطفل على غسل يديه قبل وبعد الأكل، الحفاظ على نظافة جسمه، وترتيب غرفته. كما يجب تعليمه عدم رمي النفايات في الأماكن العامة، واحترام البيئة والطبيعة. هذه السلوكيات تعزز انتماءه لمجتمعه وتجعله فردًا مسؤولاً.

10. الصبر والمثابرة

الحياة مليئة بالتحديات، ومن لا يتحلى بالصبر لا يستطيع تجاوز العقبات. لذلك، من الضروري تعليم الطفل الصبر على تحقيق الأهداف، والالتزام بالمهام حتى إتمامها. عندما يفشل الطفل في مهمة معينة، يجب دعمه وتشجيعه على المحاولة مرة أخرى بدلًا من معاقبته أو إحباطه. هذا يعزز لديه روح المثابرة ويجعله أكثر استعدادًا لمواجهة التحديات المستقبلية.

11. التعبير عن الرأي بلباقة

غرس مهارات التواصل الفعال في الطفل يجعله قادرًا على الدفاع عن نفسه والتعبير عن أفكاره بثقة. يجب أن يتعلم كيف يطرح رأيه دون تعدٍّ، ويستمع إلى آراء الآخرين بصدر رحب. يمكن تعزيز هذه المهارة من خلال جلسات عائلية للحوار والنقاش، حيث يُعطى الطفل الفرصة للتعبير عن رأيه في قضايا مناسبة لعمره.

12. ضبط استخدام التكنولوجيا

في العصر الرقمي، لا يمكن إبعاد الطفل عن الأجهزة الذكية، لكن من الممكن غرس سلوكيات تحكم استخدامه لها. يجب أن يتعلم الطفل أن هناك وقتًا للعب، ووقتًا للتعلم، ووقتًا للنوم. ويمكن تحديد عدد ساعات معينة لاستخدام الشاشة، بالإضافة إلى مراقبة المحتوى الذي يتعرض له. كما يمكن توجيهه لاستخدام التكنولوجيا بطريقة مفيدة من خلال تطبيقات تعليمية هادفة.

13. الثقة بالنفس وتقدير الذات

الثقة بالنفس لا تُولد مع الطفل، بل تُزرع وتُبنى تدريجيًا من خلال التجارب والتفاعلات اليومية. الطفل الذي يُشجَّع عند نجاحه ويُسانَد عند فشله، يكتسب ثقة حقيقية في نفسه. من المهم عدم مقارنته بأقرانه، لأن المقارنة تُضعف شخصيته وتولّد الغيرة. يجب أن يشعر بأنه مقبول ومحبوب كما هو، وبأن لكل شخص نقاط قوة وضعف.

14. احترام القواعد والأنظمة

يجب أن يتعلم الطفل أن الحياة تسير وفق قواعد، وأن احترامها يحفظ الحقوق ويمنع الفوضى. يمكن غرس هذه القيمة من خلال تطبيق قواعد منزلية واضحة ومتسقة، مع الالتزام بتطبيق العواقب بشكل عادل عند مخالفتها. النظام داخل المنزل هو مقدمة لفهم النظام خارج المنزل، في المدرسة والمجتمع.

15. الإحساس بالهوية والانتماء

كل طفل يحتاج إلى الشعور بأنه ينتمي إلى أسرة، إلى وطن، إلى ثقافة، وإلى دين. هذا الإحساس يمده بالقوة والثبات. يجب أن يتعرف على تراثه الثقافي والديني من خلال القصص، الأناشيد، الأنشطة، وزيارات الأماكن التاريخية والدينية. الانتماء يمنحه إحساسًا بالرسوخ والاتزان الداخلي.

جدول: مقارنة بين السلوكيات التي تعزز الشخصية الإيجابية والسلوكيات التي تؤثر سلبًا

المصادر

• كتاب: تربية الطفل من الولادة حتى المراهقة – د. عبد الكريم بكار

• Child Development by Laura E. Berk (Pearson Education, latest edition)